یقول محمود مهدی الاستانبولی (1) فی کتابه اعجاز القرآن العلمی، الصادر عام 1976، بعد أن یستعرض الآیة القرآنیة الکریمة القائلة: (یا أیها الناس انا خلقناکم من ذکر و أنثی و جعلناکم شعوبا و قبائل لتعارفوا، ان أکرمکم عند الله أتقاکم) (2) یقول:
»هذه الدعوة الی اعلان وحدة البشریة، قد انتبه الیها الغرب فی العصور المتأخرة بعد تجارب ألیمة و حروب مدمرة بسبب انقسام شعوبه الی قومیات متعددة متنازعة…«
أجل لقد انتبه کثیر من مفکری الغرب فی العصور الحدیثة الی هذه النظرة الانسانیة العالمیة للبشریة. فأخذوا یدعون – متأثرین بالقرآن – الی الفکرة الأممیة فقال قائلهم:
»… و ما الفرق بین الأوطان المختلفة؟ ألم تکن کلها من أجزاء الأرض التی نعیش علیها؟! و ما قیمة الحدود التی تفصل الأوطان بعضها عن بعض؟! أفلم تکن کلها من الأمور الاعتباریة التی أوجدتها المواقع الحربیة أو المناورات السیاسیة؟! و ما الفرق بین الأمم المختلفة؟! ألم تنحدر کلها من أصل واحد أفلا یجدر بالانسان – و هذه هی الحال – أن یسمو بأفکاره و عواطفه فوق الأوطان، و فوق الأمم، فیعتبر الأرض بأجمعها «وطنا» کما یعتبر البشر جمیعا «مواطنین«.. فتصبح «الانسانیة» بمثابة «القومیة المشترکة» بین جمیع أبناء البشر (3) ثم یقول أن من أهم أهداف الاسلام: «الایمان بأن
البشریة أسرة واحدة فی الأصل، فیجب تحقق وحدتها و ایمانها باله واحد و تشریع و خلق موحد ثابت لا یتطور و لا یتبدل شأن التشریعات و أنواع السلوک التی وضعها البشر، مما جعلهم یختلفون من بلد الی آخر، بل من بیت الی بیت، الأمر الذی یسبب لهم النزاع و الحروب» (4).
و یقول: «و قبل أن ننتقل الی بحث آخر لابد لنا أن نشیر الی أن هناک سؤالا یفرض نفسه حول هذا الموضوع:
»اذا تمت هذه الدعوة الأممیة بین الشعوب و أنشئت دولة عالمیة تحت علم واحد، کما ینادی کثیر من المؤرخین الحضاریین الیوم، فما هو التشریع الذی یحکم هذه الدولة العالمیة؟! بعد أن تحققنا من افلاس جمیع التشریعات المعاصرة باعتراف العلماء الذین تنبأوا بوشک انهیار الحضارة الحالیة بنتیجتها!.
»لا شک أن الاسلام وحده هو الجدیر بأن یتولی قیادة هذه الشعوب فهو کفیل بتوحیدها و حل جمیع مشکلاتها… و اذکر أیها القاریء المنصف أنک اذا اعتنقت الاسلام لا تکون قد هجرت المسیحیة الصحیحة بل بالعکس، فان الاسلام نفسه جاء متمما لهذه المسیحیة و مصححا لها، کما قال کثیر من المنصفین الغربیین» (5).
و یستعرض الکاتب الآیة الکریمة: (و ان طائفتان من المؤمنین اقتتلوا فأصلحوا بینهما، فان بغت احداهما علی الأخری فقاتلوا التی تبغی حتی تفیء الی أمر الله. فان فاءت فأصلحوا بینهما بالعدل و أقسطوا ان الله یحب المقسطین) (6).
ثم یعقب علی هذه الآیة بقوله:
لا شک أنه یقع نزاع و اختلاف بین الدول، فما هو الحل لازالته من أجل تحقیق «السلام العالمی«؟!
»لقد کان یزال بالحرب و انتصار الدولة القویة علی الدولة الضعیفة کما هی الحال فی شریعة الغاب. الأمر الذی أدی الی سفک الدماء الکثیرة و انتشار شبح الخوف
و الشقاء علی العالم مما دعا القادة و المفکرین الی انشاء «عصبة الأمم» بعد الحرب العالمیة الأولی، ثم انشاء «هیئة الأمم المتحدة» بعد الحرب العالمیة الثانیة لحل المنازعات و الاختلافات بین الدول عن طریق المفاوضات و الحلول السلمیة.«
»و بعد هذه المقدمة ألا تعجب أیها القاریء اذا قلنا لک ان القرآن سبق جمیع المفکرین و الساسة الی هذه الفکرة کما رأیت ذلک واضحا فی الآیة السابقة التی تشیر الی فکرة جمعیة أمم متحدة تحل المنازعات الدولیة و تضمن السلام علی الأرض. و قد تأسست هذه المؤسسة بعد الحرب العالمیة الثانیة حسب هذا المبدأ و لکن لم تطبقه بحق، مما سبب تکرار الحروب و کثرة النکبات و فقدان السلام. و هذه الآیة تذکر أیضا بوجوب وجود قوة تأییدیة لهذه المنظمة لتستطیع فرض العدل بین الدول، و الا کان وجودها کعدمها کما هی الحال الآن!» (7).
هذا الذی یتجرأ علی تفسیر القرآن الکریم علی هذه الصورة تراه یعلن النکیر علی أئمة المسلمین و علمائهم و علی من یلتزمون بمذهب من المذاهب الاسلامیة، لأنه یرید العودة الی الأصول، کما یدعی، فینشیء فی ذلک کتابا عنوانه «بدعة التعصب المذهبی و آثاره الخطیرة فی جمود الفکر و انحطاط المسلمین«، تماما کما أبوالفضل.
و لا غرابة فی ذلک فبصمات دعوة الحکومة العالمیة و وحدة الأدیان واضحة فی کتاباته، و ذلک أنموذج منها. و أوجه الشبه بین الاستانبولی و أبیالفضل عدیدة.
1) صاحب کتاب «ألف جواب و جواب حول الجنس و الحب و الجمال«.
2) الحجرات: 13.
3) صفحة 67 – 65 من کتاب اعجاز القرآن العلمی – نقلا عن مقال بین الوطنیة و الأممیة فی مجلة الرسالة، العدد 240.
4) صفحة 76.
5) صفحة 71 – 65.
6) الحجرات: 9.
7) صفحة 69 – 68.