ان الاسلام لم یمنع الاکتفاء بزوجة واحدة بل استحسنه و حض علیه، و لم یوجب تعدد الزوجات بل أنکره و حذر منه، و لکنه «شرع لأزواج یعیشون علی الأرض و لم یشرع لأرواح تعیش فی السماء، و لا مناص فی کل تشریع من النظر الی جمیع العوارض و التقدیر لجمیع الاحتمالات، و فی هذه الاحتمالات و لا ریب ما یجعل اباحة التعدد خیرا و أسلم من تحریمه بغیر تفرقة بین ظروف المجتمع المختلفة أو بین الظروف المختلفة التی یدفع الیها الأزواج» (1).
یقول المفکر الاسلامی الکبیر عباس محمود العقاد ما یصلح للرد علی المخدوعین بدعایة البهائیة حول «المساواة بین الرجال و النساء» دون أن یعرفوا حقیقتها؛: «و ینبغی أن تنبه الی و هم غالب بین الجهلاء و المتعجلین من المثقفین عن سنن الاسلام فی تعدد الأزواج قبل الاسلام.. اذ الغالب علی أوهامهم ان الاسلام هو الدین الوحید الذی أباح تعدد الزوجات أو أنه أول دین اباحه بعد الموسویة و المسیحیة.
و لیس هذا بصحیح کما یبدو من مراجعة یسیرة لأحکام الزواج فی الشرائع القدیمة، و فی شرائع أهل الکتاب، فلا حجر علی تعدد الزوجات فی شریعة قدیمة سبقت قبل التوراة، و الانجیل. و لا حجر علی تعدد الزوجات فی التوراة و الانجیل بل هو مباح مأثور عن الأنبیاء أنفسهم من عهد ابراهیم الخلیل الی عهد المیلاد، و لم یرد فی الأناجیل نص واحد یحرم ما أباحه العهد القدیم للآباء و الأنبیاء و لمن دونهم من الخاصة و العامة و ما ورد فی الأناجیل یشیر الی الاباحة فی جمیع الحالات و الاستثناء فی حالة واحدة. و هی حالة الأسقف حین لا یطیق الرهبانیة فیقنع بزوجة واحدة اکتفاء بأهون الشرور. و قد استحسن القدیس أو غسطین أن یتخذ
الرجل سریة مع زوجته اذا عقمت هذه و ثبت علیها العقم، و حرم مثل ذلک علی الزوجة اذا ثبت عقم زوجها لأن الأسرة لا یکون لها سیدان (2) و اعترفت الکنیسة بأبناء شرعیین للعاهل شرلمان من عدة زوجات، و قال و ستر مارک Westermark العالم الثقة فی تاریخ الزواج ان تعدد الزوجات باعتراف الکنیسة بقی الی القرن السابع عشر و کان یتکرر کثیرا فی الحالات التی لا تحصیها الکنیسة و الدولة، و عرض جروتیوس Grotius العالم القانونی المشهور لهذا الموضوع فی بحث من بحوثه الفقهیة فاستصوب شریعة الآباء العبرانیین و الأنبیاء فی العهد القدیم. «فالاسلام لم یأت ببدعة فیما أباح من تعدد الزوجات و انما الجدید الذی أتی به أنه أصلح ما أفسدته الفوضی من هذه الاباحة المطلقة من کل قید، و انه حسب حساب الضرورات التی لا یغفل عنها الشارع الحکیم، فلم یحرم أمرا قد تدعو الیه الضرورة الحازبة و یجوز أن تکون اباحته خیرا من تحریمه فی بعض ظروف الأسرة أو بعض الظروف الاجتماعیة العامة.
اما أن هذه الظروف قد تضطر أناسا الی الزواج بأکثر من واحدة فالأمر فیها موکول الی الذین یعانون تلک الضرورات من الرجال و النساء، و من تلک الضرورات أن یحتفظ الرجل بزوجته عقیما أو مریضة لا یرید فراقها و لا ترید فراقه، و منها أن یتکاثر عدد النساء علی عدد الرجال فی کثیر من الأوقات، فاذا رضیت المرأة فی هذه الأحوال أن تتزوج من ذی حلیلة فذلک أکرم لها من الرضا بعلاقة الخلیلة التی لا حقوق لها علی زوجها و اکرم لها کثیرا من الرضا بابتذال الفاقة أو بذل النفس فی سوق الرذیلة.
و من حسنات التشریع فی جمیع هذه الضرورات ان یحسب حسابها و لا ینسی الحیطة لا تقاء ما یتقی من اضرارها و من سوء التصرف فیها.. و کذلک صنع الاسلام بعد اباحة تعدد الزوجات للضرورة القصوی، فانه اشترط فهی العدل و نبه الرجال الی صعوبة العدل بین النساء مع الحرص علیه.
قال الله تعالی: «فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة» (3).
»و لن تستطیعوا أن تعدلوا بین النساء و لو حرصتم» (4).
و اشترط علی الأزواج القدرة علی تکالیف الحیاة الزوجیة و التسویة فی السکن و الرزق بینهم و بین الزوجات.
».. أسکنوهن من حیث سکنتم من وجدکم» (5).
».. و علی المولود له رزقهن و کسوتهن بالمعروف» (6).
و لا یسقط عن الزوج واجب الاحسان فی المعاملة سواء اتصلت بینه و بین حلیلته آصرة الزواج أو انتهت بینهما هذه الآصرة الی الفراق یغیر رجعة:
»الطلاق مرتان فامساک بمعروف أو تسریح باحسان و لا یحل لکم أن تأخذوا مما آتیتموهن شیئا الا أن یخافا ألا یقیما حدود الله» (7).
بل لا یسقط عنه هذا الواجب حتی فی حالة الطلاق بعد زواج لم تنعقد فیه الصلة بین الزوجین: «یا أیها الذین آمنوا اذا نکحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لکم علیهن من عدة تعتدونها فمتعوهن و سرحوهن سراحا جمیلا» (8).
و قد یقول قائل: ألیس الأمثل هو الزواج المفرد؟ نقول مع الامام أبی زهرة رحمه الله: ان ذلک بلا شک هو الاولی و الأجدر و الأحسن توفیقا، و لکن أمثل الزواج انما یکون لأمثل الرجال، و أمثل الرجال دائما عدد قلیل، و ان هذه
الشریعة جاءت للأحمر و الأسود و الأبیض، و للذین تتحکم فیهم شهواتهم، و الذین یعتدلون و تحکمهم عقولهم، و هی علاج لکل هذه النفوس، و ان الذین تتحکم فیهم شهواتهم لو أغلق علیهم باب التعدد لفتحوا لأنفسهم باب الحرام اذا کان التعدد فی ذاته مصیبا، فحلال معیب خیر من حرام لا شک فیه.
1) العقاد: السابق، ص 177.
2) العقاد: السابق، ص 177، کتاب الزواج الأمثل Bono Conjugali.
3) سورة النساء، الآیة 3.
4) سورة النساء، الآیة 129.
5) سورة الطلاق، الآیة 6.
6) سورة البقرة، الآیة 233.
7) سورة البقرة، الآیة 229.
8) سورة الاحزاب، الآیة 49.