و اذا کان هؤلاء قد بلغ بهم الأمر الی هذا الحد، فلم یکن بعیدا منهم أن یدعوا نسخ شریعة الاسلام. و یبرروا ذلک بتبریرات بعیدة عن منطق العقلاء، و لا سیما المؤمنین بأن الاسلام هو الدین العام الخالد، آخر الأدیان و الشرائع.. و أن شریعته صالحة لکل زمان و مکان، بما أودعه الله فیها من نصوص و قواعد ندیر علیها التشریع حسب مصالح البشر الحقیقیة فی کل زمان و مکان..
لکنهم فی سبیل حبک ادعائهم یتلاعبون بعقول بعض الناس، و یزورون کلاما قد ینطلی علی بعض الفارغین البلهاء، فیقولون لتبریر خروجهم علی شریعة الله الخالدة، و ادعائهم شریعة جدیدة تنسخ شریعة الاسلام «اقتضت رحمة الله أن تجعل لکل مرحلة شریعة و حکما یتناسب مع درجة التطور، و بما أن تعاقب الشرائع هو من مستلزمات الهدایة الالهیة، و أن التدرج فی الکمال سنة من سنن الرحمة، فلا یستطیع العقل المنیر أن یقول: بأن أیة شریعة أو قانون (و لاحظ ادخالهم کلمة «قانون» فی کلامهم حتی ینطلی علی الناس) یصلح لکل زمان و مکان.. الخ«!! فیطعنون فی خلود الرسالة و الرسول.
و الاسلام بنصوصه و قواعده العامة المرنة فی التشریع، لم و لن یعجز عن مواکبة التطور، و التشریع للناس بما یحقق مصالحهم، و یدفع الضر عنهم.. و المصلحة و مراعاتها قاعدة من هذه القواعد، حتی قال ابنالقیم «و حیثما توجد المصلحة فثم شرع الله» و قد شرع الله الأحکام علی أساس المصلحة للناس. و أقام الفقهاء و الأئمة السابقون ما قالوه من أحکام علی أساس هذه القاعدة و غیرها، و أمامهم القرآن الکریم قد شرع لهم أن القیام بالواجب أو الفرض اذا أدی الی ضرر بجسم الانسان أو مصلحته، فانه یسقط عنهم هذا الواجب أو الفرض أو یؤخره. حتی قال الفقهاء «صحة الأبدان مقدمة علی
صحة الأدیان» بمعنی أن أمر دیننا کالصوم و الحج لو ترتب علیهما ضرر للجسم فما علی المسلم صوم، و لا حج.. محافظة علی صحة الانسان و حیاته..
و أیة معاملة واجبة یظهر فیما، أو ینشأ عنها ضرر واضح، تنقلب الی معاملة محظورة، مراعاة لمصلحة الانسان، و أیة معاملة محظورة، تصبح ضروریة لمصلحة الناس، تصبح معاملة واجبة، کانقاذ الانسان لحیاته بأکل أو شرب محرم من المحرمات، و علی قدر ضرورته و ما ینقذه «فمن اضطر غیر باغ و لا عاد فلا اثم علیه» (1) أی اضطر لأکل المحرم انقاذا لحیاته فلا اثم علیه، و تکرر هذا فی صور متعددة فی آیات متعددة من القرآن..
و اذا صار الشیء المباح عمله، ضروریا لتحقیق مصلحة عامة للناس، أصبح واجبا علی الناس عمله. کما اذا تعین شرب الماء – و هو فی أصله مباح – ضروریا لانقاذ حیاة – أصبح شرب الماء واجبا.. و اذا کان تناول الماء یغیر ضررا یغلب علی الظن أو مؤکدا، أصبح حراما و هو فی أصله مباح.
و هکذا تدور الأحکام علی أساس تحقیق المصالح للناس فی حیاتهم، و التیسیر علیهم فی مواجهة ظروف الحیاة و تطوراتها..
و لا یقف الاسلام الا فی وجه الانحراف الضار، و أی أمر یضر بالناس، حتی لو کان هواهم فیه.. و بذلک حمل الاسلام معه أساس صلاحیته لکل زمان و مکان، فلن یقف عاجزا أمام أی تطور حتی یحتاج الناس لتشریع أو دین جدید..
فماذا بقی لهؤلاء من دعوی أن الاسلام أصبح عاجزا عن تطورات الحیاة؟.
انهم یدعون ذلک لیبرروا بذلک زورهم، و ما کانوا یفترون.. «ان الذین یفترون علی الله الکذب لا یفلحون» (2).
ثم ما الذی أتوا به جدیدا لیس فی الاسلام الا اذا کان افکا وزورا، أو کان تلبیة للغرض المریض، و الهوی الشریر، و الغریزة الجامحة؟.
کما فعلوا فی أرکان الاسلام من العبادات: الصوم و الصلاة و الزکاة و الحج؟
انهم عملوا علیها «تخفیضات» هائلة (کالآوکازیون(، و أجروا فیها تغییرات ترضی أمزجة بعض الناس.. و قد سبق الحدیث عن ذلک؟
فهل الذی فعلوه من «التخفیضات» و التغییرات حاجة من حاجات العصر و التطور؟
هل الغاء الحج الی مکة عند المسلمین، و الی القدس عند المسیحیین، و نقله الی أضرحة الباب و البهاء فی «عکا» و «حیفا» و الأماکن التی عاشوا فیها فی ایران أو فی العراق، هو مما یقتضیه التطور، أو هو ما تقتضیه الأنانیة و حب الذات «و الهوس» الدینی؟!
و هل کان من التطور أن یقتلوا منافسیهم، و من لا یقر بأمرهم، حتی من عائلتهم و أخص أقاربهم؟
و هل دعوتهم مثلا للحب و السلام هو مما اقتضاه التطور، و لم یکن موجودا فی الأدیان السابقة علی دینهم الجدید و لا سیما الاسلام؟
ثم هل عملوا هم حتی بما اقتضاه هذا الدین المخترع؟ انه تطور و لکن الی منحدر..
و هل مما اقتضاه التطور أن یبیحوا زواج الأقارب من أخت و خالة و عمة و بنت أخت و بنت أخ؟.. و لا یحرمون الا زوجة الأب، مادام البهائیون قلة و ضعفاء (3).
و هل من التطور أن یقرر أن الحروف عصت الله، فقیدها بالاعراب و القواعد، و قد أرسله الله لیفک عن هذه الحروف أغلالها و قیودها – یعنی اعرابها – فأیة لغة یا تری؟ و أیة حروف فیها قد عصت الله فعاقبها هذا العقاب؟ هل هذا خاص باللغة العربیة لیبرر بذلک أخطاءه القبیحة فیها، و فیما یدعیه أنه منزل من عند الله کالأقدس.. و الله لا ینزل کلامه بهذه الأخطاء؟ أو أن ذلک عام فی کل اللغات، و لکل لغة فی العالم قواعدها و موازینها و أجرومیتها؟
فهل هذا کلام عقلاء أو حشاشین؟!!
لقد کان «عبدالبهاء» ذکیا متحدثا و مطلعا، و هو حین طاف بأمریکا و أوربا، و خطب فی محافلها، عرف کیف یستولی علیهم، حین استغل ما فی نفسیاتهم من حاجات، أخذ یتحدث لهم عنها، علی أنها دعوة له، کالحب و السلام، و توحید الناس و الأدیان، و هم حین عرفوا أن دعوته تضعف الاسلام، و تنادی بنسخ شریعته، کانوا أشد اقبالا علیه، و تشجیعا له، لعله ینال من الاسلام مالم ینالوه.. و الیهود و الماسونیة برجالهما، و أجهزة اعلامهما من ورائه، تشید به و تروج له..
و من هنا تأسست له مراکز کثیرة فی الغرب و الشرق، بل فی البلاد الاسلامیة!! بلغت نحو 80 محفلا، و کل محفل یدیر أمور مجموعة من المحافل – انظر ص 122، 121 من «البابیون و البهائیون«..
و هل کان من مقتضی التطور عنده أن یلغی الشهور العربیة و الأفرنجیة و عددها (4)، و یغیر أسمائها و أسماء الأیام، فیجعل السنة 19 شهرا، و الشهر 19 یوما، مع اضافة أیام نسیء فی آخر السنة! کما سبق؟
فهل هذا من تباشیر توحید العالم، أو أنه أضافة عنصر من عناصر الخلاف فیه؟
انهم یقولون ان البهائیة لا تنتمی الی دیانة بالذات. و انما هی دعوة الهیة جدیدة غایتها تحقیق الاتحاد، و التفاهم بین أهل الأدیان، و ازالة الفوارق بین بنی الانسان.. الخ.. و قد جاء هو فزاد أنغام الخلاف نغمة!!
و کأنه توهم أن العالم سیترک ما علیه من دین، لیدخل فی دینه المهرأ المرقع؟
و قد أنکروا ما علیه المسلمون و المسیحیون و الیهود من اعتقاد فی الجنة و النار والحساب و الثواب و العقاب.
و قالوا ان ما ورد فی ذلک من ألفاظ انما هو رموز لأمور معنویة روحیة، بینوها هم حسب رأیهم، کشأنهم فی تفسیر القرآن، و شأن الفرق الشیعیة، و لا سیما الاسماعیلیة من قبلهم، حیث ترکوا معانی الألفاظ الحقیقیة اللغویة و المجازیة و الاصطلاحیة، و اخترعوا لها معانی أخری بعیدة عن دلالتها المعروفة کما بیناه من قبل..
فیفسرون یوم الجزاء و القیامة بمجیء «میرزا حسین – البهاء» حیث یقول «البهاء» فی کتاب «بهاءالله و العصر الجدید«: «لیس یوم القیامة أحد الأیام العادیة، بل هو یوم یبتدیء بظهور المظهر (أی مظهر الله و هو البهاء) و یبقی ببقاء الدورة العالمیة«، «و ان الجنة و النار فی الکتب المقدسة حقائق مرموزة (5) «، فالجنة عندهم هی حالة الکمال، و النار هی النقص، و لا بعث و لا حشر و لا حساب مما صورته الکتب المقدسة!! «شیء یفرح – کده«.
و هم یفسرون الآیات القرآنیة التی تحدثت عن مظاهر یوم القیامة تفسیرات خاصة بهم.. فهم یقولون فی قوله تعالی: «اذا السماء انفطرت» المقصود هنا سماء الأدیان التی ترتفع (أی تنسخ) بکل ظهور (أی ظهور رسول منهم(.
و هم یفسرون هذا التفسیر تمهیدا لدعواهم بظهور الباب و البهاء الذی نسخ ما قبله من شرائع الرسل، و منها الاسلام..
و فی قوله «یوم تبدل الأرض غیر الأرض» عن مظاهر یوم القیامة، یفسرون الأرض بأنها أرض القلوب تتبدل بأرض المعرفة و الحکمة (6).
و المراد بالدخان فی قوله تعالی «فارتقب یوم یأتی السماء بدخان مبین» (7) هو الاختلافات فی الرسوم العادیة، التی تفرق بین الناس..
و هم فی غرورهم هذا یتهمون العلماء منذ نزل القرآن حتی الآن بعدم فهم القرآن!!
و کانت قصص القرآن تبعا لذلک موضع اعتداءاتهم، حیث قالوا أنها لا تعبر عن واقع، و لا یمکن أن نأخذ منها أیة معلومة تاریخیة، و أن الأنبیاء السابقین تساهلوا مع أممهم فی معارفهم التاریخیة، «فتکلموا بما عندهم، و ستروا الحقائق تحت أستار الاشارات» (8).
و هکذا یأتون علی کل ما قبلهم من حقائق الأدیان، فیسمخونها، أو ینسخونها،
و یقررون معانی جدیدة، لا صلة لها بالألفاظ، و انما کما یحلو لهم، و یروج دعاویهم، و یخدم أغراضهم. «الشیطان سول لهم و أملی لهم» (9).
هذه صورة من صور البهائیة القبیحة، فماذا فیها من اغراء الا لمن فقدوا کیانهم و عقولهم؟
1) البقرة / 173.
2) النحل / 116.
3) »الأقدس» للبهاء فقرة 235، و خزینة حدود و أحکام ص 186 عن «البهائیة» ص 186 و مکاتیب عبدالبهاء ص 370 ج 3.
4) فیجعلها 19 شهرا، و الله یقول «ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فی کتاب الله یوم خلق السموات و الأرض منها أربعة حرم. ذلک الدین القیم..» سورة التوبة / 36.
5) البابیة و البهائیة للشیخ محمد الخضر حسین شیخ الأزهر رحمه الله ص 31 ، 32.
6) انظر الکتاب «الایقان» ص 31 و ما بعدها. طبع المحفل الروحانی للبهائیین فی مصر 1352 هـ – 1934 م سنة 900 بهائیة و قد کتبه البهاء 1861 دفاعا عن البابیة.
7) سورة الدخان / – الایقان ص 53.
8) عن النشرة التوجیهیة للأزهر للشیخ عطیة صقر ص 31.
9) سورة محمد / 25.