ان البهائیة لما حرمت الناس عن الحریة و حرمت علیهم الجهاد منعتهم أیضا عن الاشتغال بالسیاسة و الوقوف أمام الجبابرة و النماردة، لأجل ذلک فرضت علی الناس الطاعة المطلقة للحکام کیف ما کانوا، و الأمراء أینما وجدوا، و أی عمل عملوا، فلا مذهب و لا دین یحد من غوائلهم، و لا قانون و لا دستور یحدد اختیاراتهم و اقتدارهم، فهم، وجودهم – دستور، و نطقهم – قانون، و لیس لأحد من الرعیة أن ینکر علی منکرهم و یعترض علی باطلهم، فکل ما صدر عنهم حق لا ریب فیه، و صدق لا شک فیه.
و للکل أن یطیعهم و یتبعهم سواء أمروا بالکفر و الشرک، أو الانحلال الخلقی و الفساد و الالحاد، لأن الحکام مظاهر الله و مطالع قدرته – فساقا کانوا أو فجارا، فیقول المازندرانی اله البهائیة و ربها:
»ان سلاطین العالم مشارق القدرة و مطالع الاقتدار الالهیة» (1).
و فی مقام آخر قال:
»ان السلاطین مشارق القدرة و مطالع العظمة الالهیة» (2).
و لما کان السلاطین بهذا الشأن فلیس لأحد أن یرفع أمامهم الرأس کما لیس له أن یتجاسر بالحق و یتجاهر أمامهم؛ لأن الحق مع السلطان و الحاکم لا معه، و علیه المسایرة و المتابعة المحضة مهما فعلوا و کلما أمروا، و لقد صرح عبد الاستعمار و الداعی الی الذلة و الهوان باسم الدین فی کتابه «الأقدس«:
»لیس لأحد أن یعترض علی الذین یحکمون علی العباد» (3).
فأین هذه الشریعة، شریعة الذل من تلک الشریعة البیضاء الغراء التی تعلم اتباعها منازعة الملوک و مصارعة الحکام ان خالفوا الله و رسوله.
ثم و کیف یعتنقها الأمریکان و الأمم الأروبیة المفتخرة بدیموقراطیتها و نقدها
العلنی الموجه الی الرؤساء و الحکام، کیف یعتنقون البهائیة أو ینظرون الیها نظرة الاعجاب کما یدعی البهائیون، و هل من المعقول أن تقبل هذه الأمم و الملل تلک الذلة و ذلک الهوان، الأمم التی تعلمت حریة القول و الرأی من شریعة الله الاسلام، الشریعة التی لا تفرق بین رئیس و مرؤس، و بین حاکم و محکوم، و بین راع و رعیة. و نحن نعلم أن الذین اعتنقوا البهائیة من الغربیین ما اعتنقوها الا لأنهم جهلة من تعلمیات البهائیة الحقیقیة أو لعدائهم الشدید لرسول الاسلام و أمته، و الا فأی حسن و جمال فیها، أم أی فکر مبتکر و فلسفة بدیعة هی حتی ینجذب الیها القلوب سوی الاباحیة و الانحلال و سوی الارهاصات و التخبطات، و الا من أی المنطق أن یقال:
»ان هذا الحزب لو أقام فی بلاد أی دولة یجب علیه أن یسلک مع تلک الدولة«(4).
فالشرائع السماویة الحقة لا تکون علی هذا المنوال بل هی تأمر الجمیع باتباعها و اطاعتها لا اتباع غیرها فهی تدعو الدول و حکامها الی التمسک بها و التشبث بأذیالها لا أن تسلک مسالکها و تذهب مذاهبها و تتبعها فی هواها و هواهم، و هذا أکبر دلیل علی کونها الهیة سماویة و ها هو نبی الاسلام دعی الی اتباع غیر الله، فجاهر بالقول:
(أفغیر الله أبتغی حکما و هو الذی أنزل الیکم الکتاب مفصلا((5).
و (أغیر الله أبغی ربا و هو رب کل شیء) (6).
و (أفحکم الجاهلیة یبغون و من أحسن من الله حکما لقوم یوقنون) (7).
و قد أمره سبحانه أن لا یسلک مسلک الناس أینما سلکوا بل یستقیم علی صراط الله وحده.
(ثم جعلناک علی شریعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذین لا یعلمون) (8).
و (فاحکم بینهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جآءک من الحق لکل جعلنا منکم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلکم أمة واحدة و لکن لیبلوکم فی ما ءاتیکم فاستبقوا الخیرات الی الله مرجعکم جمیعا فینبئکم بما کنتم فیه تختلفون – و أن احکم بینهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم و احذرهم أن یفتنوک عن بعض ما أنزل الله الیک) (9).
و (و من لم یحکم بما أنزل الله فأولئک هم الکافرون) (10)، و (الظالمون) (11)، و (الفاسقون) (12)، و أعلن أمام الخلق کله:
(و من یبتغ غیر الاسلام دینا فلن یقبل منه و هو فی الآخرة من الخاسرین) (13).
و أمر المسلمین أن یترکوا أرضا لا یحکم فیها بحکم الله و یمنع أن یبعد فیها اله الحق وحده و أن یعمل علی التعلیمات الاسلامیة و شدد علی ذلک حتی قال ان من لم یهاجر عن مثل تلک الدولة فهو مجرم أثیم:
(ان الذین توفاهم الملائکة ظالمی أنفسهم قالوا فیم کنتم قالوا کنا مستضعفین فی الأرض قالوا ألم تکن أرض الله واسعة فتهاجروا فیها فأولئک مأواهم جهنم و ساءت مصیرا) (14).
فهذا هو شأن الدین لا یخضع لطاغیة، و هذه هی کبریاء الشریعة لا ترکع لباغیة لا مثل البهائیة التی تأمر بمشایعة الطغاة البغاة الذین یعمهون فی بغیهم و طغیانهم و تعدیهم علی الضعفاء و المساکین.
و البهائیة لم تکتف بهذا و حسب بل أمرت الناس بالاجتناب الکلی عن السیاسة و الانحیاز القطعی عن أمور الدولة و الملک زاعمة أن السیاسة مخلة بالدین و مفسدة
للقلوب، جاهلة أن الدین لا یکون دینا ما لم یصلح أحوال الناس فی دنیاهم و أمور معاشهم و معیشتهم.
فیقول المازندرانی مفتخرا علی منعه الناس من الاشتغال بالسیاسة و التعلق بأمور الدولة:
»تالله لا نرید أن نتصرف فی ممالکم بل جئنا لتصرف القلوب» (15).
و من یخبر ذلک المجنون الذی یفتخر علی رذیلة أنها لیست بفضیلة، و أنه لا یمکن التصرف فی القلوب بدون التصرف فی الأجسمام، فالأبدان التی یحکمها الشیطان و یملکها لا یمکن أن تربو و تنشأ و تنمو فیها قلوب یسکنها الرحمان، فلا بد لتزکیة القلوب طهارة الأبدان، و لطهارة الأبدان تزکیة القلوب، فکل لازم للأخر خلاف ما فهمه هذا البلید، الوحید فی حمقه و سفهه.
و یقول فی أقدسه بعدما قال: لیس لأحد أن یعترض علی الذین یحکمون علی العباد – یقول:
»دعوا لهم ما عندهم و توجهوا الی القلوب» (16).
کأن الدین لیس الا لاصلاح القلوب و أما الأبدان و العیش فی الکون لیس لدین فیه رأی.
و هذا القول فاسد بداهة؛ لأن الأبدان النجسة لا تتسع للقلوب الطاهرة و لا تتحملها، و العیش الغیر المرغوب و الأمور اللائقة و الغیر المناسبة لا تؤدی الا الی الفساد و الهلاک.
و أکثر من ذلک ان الدین الذی لا یکون لنفاذ دستوره دولة تصونه و تؤیده کیف یمکن أن یعد دینا و کیف یمکن أن یعیش معتنقوه مکرمین محترمین، العاملین بأوامره و المطیعین لتعلیماته، لأن کثیرا ما یخالف أوامر الدولة تعلیمات دینه، بل هذا حاصل فی واقع الأمر، فهناک دول یحکمها الاشتراکیون و الشیوعیون، و دول أخری یحکمها
الاقطاعیون و الرأسمالیون، و البلاد الأخری یستولی علیها من لا یؤمن بهذا و لا ذاک بل و یخالف کل الأنظمة القائمة الرائجة – فماذا یکون موقف البهائی منها؟
أشیوعی مع الشیوعیین و اقطاعی مع الاقطاعیین، ملحد فی الدولة الملحدة و صلیبی مع الصلیبیین و غیره مع غیرهم.
و ماذا یکون هذا غیر لعبة یلعب بها السفهاء و عبدة الطاغوت، فالدین لا یزحزحه شیء عن موقفه و منهجه الذی یقره و یثبته لمعتنقیه، و ثم ماذا یعنی عبدالبهاء عباس عن قوله:
»ان الدین لیس له أیة علاقة بالأمور السیاسیة و لا هو یتدخل فیها لأن الدین یتعلق بالأرواح و الوجدان لا بغیرهما» (17).
فهل الروح منفصل عن الجسم و منعزل عن الکون و ما یجری فی الکون، و الا ماذا یقصد؟
و ماذا یقصد من قوله أیضا: «یا أحباء الله یجب علیکم أن تخضعوا لسریر سلطنة کل سلطان و تکونوا خاشعین للسدة الملوکیة لکل ملک و أن تخدموا الملوک بنهایة الصدق و الأمانة و تکونوا مطیعین لهم و محبین لغیرهم و أن لا تتداخلوا فی الأمور السیاسیة» (18).
أو بعد هذا شک لأحد بأن البهائیة لیست آلة الاستعمار التی ترید أن ترسخ فی قلوب الشعوب المسلمة عدم التدخل فی أمور الدولة و ترکها للمستعمرین، و عدم الکفاح ضد ظلمهم و عدوانهم و الرضا بکل ما یصدر عنهم و التذلل أمام کل جبار عنید خلافا لجمیع الأدیان التی جاءت لتحریر الانسان من عبودیة غیر الله و الانقیاد لشرائع غیر شرائع الله و أوامره.
و البهائیة لیس هذا شأنها تجاه السیاسة بل هذا هو دأبها حول المشاکل و المسائل الأخری، الاقتصادیة منها و المالیة و العمرانیة و غیرها من أمور المدنیة، فلا الدنیا و لا الآخرة و ذلک هو الخسران المبین، و هذه مع الادعاء:
»ان کتابات بهاءالله أوسع فی دائرتها من کل ما عداها فهی تبحث فی کل شأن من
شئون الحیاة البشریة سواء کانت خاصة أو عامة، مادیة أو روحانیة» (19).
و ها نحن بینا قصور باعها و ضیق أفقها و قلة صلاحها و عدم صلاحیتها لارشاد الناس الی ما یحتاجه الخلق من مادیة أو روحانیة فی الدین و الدنیا و فی هذه الحیاة الفانیة و الحیاة الأخرویة الباقیة من کتبهم هم و بعباراتهم أنفسهم، کما أوردنا بعض المقتطفات الیسیرة من الشریعة الخالدة، شریعة الله التی لا تترک صغیرة و لا کبیرة من أمور الدین و الدنیا الا و هی تهدی البشریة الی أصلحها و أنفعها للعباد و البلاد، و لنعم المثل الذی مثل به الله تبارک و تعالی فی رسالته الأخیرة الی الخلق کافة.
(ألم تر کیف ضرب الله مثلا کلمة طیبة کشجرة طیبة أصلها ثابت و فرعها فی السماء – تؤتی أکلها کل حین باذن ربها و یضرب الله الأمثال للناس لعلهم یتذکرون – و مثل کلمة خبیثة کشجرة خبیثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) (20).
و صدق الله مولانا العظیم.
و قبل أن ننتهی نسرد بقیة عقائد القوم سردا سریعا حتی یتم البحث و یشمل الموضوع جمیع جوانب القول.
1) »بهاءالله و العصر الجدید«، ص 169.
2) »بهاءالله و العصر الجدید«، ص 168.
3) »اشراقات» الاشراق الثانی، ص 133 من مجموعة الألواح.
4) »لوح العالم«، ص 223 من المجموعة.
5) سورة الأنعام الآیة 114.
6) أیضا 164.
7) سورة المائدة، الآیة 50.
8) سورة الجاثیة، الآیة 18.
9) سورة المائدة، الآیة 47 و 48.
10) أیضا الآیة 44.
11) أیضا الآیة 45.
12) أیضا الآیة 47.
13) سورة آل عمران، الآیة 85.
14) سورة النساء، الآیة 97.
15) »الأقدس» الفقرة 177.
16) أیضا الفقرة 208.
17) »خطابات عبدالبهاء» ص 176 ج 1 ط فارسی.
18) وصیة عباس ابن المازندرانی نقلا عن «بهاءالله و العصر الجدید«، ص 254.
19) »بهاءالله و العصر الجدید«، ص 52 و 53.
20) سورة ابراهیم، الآیة 24 و 25 و 26.