و فی المجال الاقتصادی لا یری أرنولد توینبی أی مکان للطبقة الوسطی فی الدولة العالمیة القادمة، ولکنه لا یعلن ذلک صراحة، و انما یتنبأ به من خلال تفسیره لمجری التاریخ. فهو یقول:
»و اذا کان اخضاع العمال أنفسهم لتنظیم تعسفی یلتزمون به فی روسیا الشیوعیة نذیرا بالسوء، فانه لأمر یبعث علی الأسی، أن نری الطبقة الوسطی فی الغرب و قد شرعت تسلک الطریق الذی ما برحت طبقة عمال الصناعة فی الغرب تسیر فیه منذ أمد طویل. اذ یعتبر القرن انتهی عام 1914 میلادیة، العصر الذهبی للطبقة
الوسطی فی الغرب، بید أن العصر الجدید قد شهد انهیار هذه الطبقة – بدورها – فی نفس البؤس الذی حکمت به الثورة الصناعیة علی طبقة عمال الصناعة. لقد کانت تصفیة البورجوازیة فی روسیا السوفییتیة نذیرا مثیرا. ولکنک واجد دلیلا أدق لما ستأتی به الأیام فی التاریخ الاجتماعی المعاصر لبریطانیا و غیرها من البلاد التی یتکلم أهلها الانکلیزیة، حیث لم تنشب أیة ثورة سیاسیة.
»و ان أبرز الخصائص السیکلوجیة الممیزة للطبقة الوسطی فی الغرب – اذا قورنت بطبقة «العمال» سواء الکتابیین أو الیدویین – ان أبرز هذه الخصائص السیکلوجیة، تتجلی فی اقبال الطبقة الوسطی الشدید علی العمل. بید أن الحال قد تغیر کثیرا عما کان علیه من قبل…
»و قد ضاقت – باستمرار – خلال القرن العشرین فرص الأعمال المربحة أمام الطبقة الوسطی فی مراکز النشاط الرأسمالی فی الغرب، مرکزا بعد آخر. و کان لهذه النکسات الاقتصادیة آثار زلزلت معنویات الطبقة الوسطی. فان هذه الحماسة للعمل التی عرفت عن هذه الطبقة قد جفت بفعل القیود المتزایدة فی مجال النشاط الخاص. کما أن التضخم و الضرائب المرهقة قد جعلا من فضیلتیها التقلیدیتین – الکدح فی سبیل الکسب، و التوفر علی الادخار – جعلا منهما أمرا لا معنی له. و تضافر ارتفاع تکالیف المعیشة، فی الوقت نفسه، علی خفض حجم عائلات الطبقة المتوسطة. و جاء حرمانها من الالتحاق بالوظائف العامة، مهددا بزعزعة کفایتها المهنیة، کما جاء فقدانها وقت «الفراغ» منذرا بتقویض ثقافتها. و بالاضافة الی ما تقدم، کابدت المرأة من الطبقة الوسطی متاعب أشد مما کابده الرجل. و المرأة هی الأمم التی اعتمدت علیها – کما دلت کتب السیر – الطبقة المتوسطة العالمیة فی الدفاع عن کیانها.
»و قد ترتب علی هجر الطبقة المتوسطة – بالتدریج – الأعمال الخاصة و دخولها فی الوظائف العامة أو ما یعادلها – سیکلوجیا – من وظائف المؤسسات الکبری غیر الحکومیة، ترتبت علی ذلک مکاسب للمجتمع الغربی، کما ترتبت علیه خسائر.
»فأما عن المکاسب: یتمثل المکسب الأساسی فی اخضاع الحافز الذاتی للکسب، للحافز الغیری للخدمة العامة. و یتأتی قیاس القیمة الاجتماعیة لهذا التغییر، بامعان النظر فی نتائج ما أسفرت عنه التغیرات التی تناظره فی تاریخ الحضارات
الأخری. و تطالعنا مثالا، الصحوة الاجتماعیة التی انبعثت عن انشاء الامبراطوریات العالمیة فی تاریخ الحضارات: الهلینیة و الهندیة و الصینیة. اذ قد أنجزها و میزها بطابعه الی حد کبیر – توجیه مواهب طبقة دأبت علی النهب و السلب، الی الخدمة فی الوظائف العامة. و مصداقا لذلک. استطاع أغسطس و خلفاؤه أن یجعلوا من رجال الأعمال الرومانیین الجشعین، موظفی حکومة أخیار. و صنع الامبراطور الصینی «هان لیو بانج» و خلفاؤه، موظفین صالحین من أعیان الطبقة الاقطاعیة النهایة. و صاغ کورنوالیس و خلفاؤه، موظفین صالحین من الوکلاء التجاریین الجشعین لشرکة الهند الشرقیة البریطانیة.
»و أما عن الخسائر: فانه علی الرغم من اختلاف الوسائل فی کل من هذه الحالات، أسفرت النتائج عن مظاهر ضعف بارزة. و یمکن تفسیر فشلها فی النهایة بالبلبلة الفکریة الکامنة فی نفوس المشتغلین بالخدمة العامة، حیث تلقی أسمی الفضائل، و هی فضیلة النزاهة، ولکن یضعفها الافتقار الی التحمس للعمل، و عزوف عن اتخاذ موقف المبادأة أو التعرض للمخاطر. و تتبدی هذه المظاهر – فی الوقت الحاضر – فی المحیط العام لموظفی الخدمة المدنیة العامة، من خلال استقراء أحوال الطبقة المتوسطة الغربیة أثناء القرن العشرین. و لا یبدی هذا الاستقراء ما یبشر بنجاحها فی القیام بالعبء الهائل الذی لاشک ستواجهه ان آجلا أو عاجلا، و هو عبء تنظیم الحکومة العالمیة و المحافظة علیها…«
»و لم یکن عسیرا ادراک دلالة هذه الاتجاهات جمیعا لمستقبل النظام الرأسمالی المألوف. اذ ما برح رصید الطبقة الوسطی الغربیة من الطاقة السیکلوجیة التی اکتسبتها قبل الثورة الصناعیة، یشکل القوة الدافعة للنظام الرأسمالی و اذا کانت هذه الطاقة قد استقطبت الیوم ثم تحولت فی نفس الوقت من النشاط الفردی الخاص الی الخدمة العامة، فان هذا التحول نذیر بنهایة النظام الرأسمالی.
»ان الرأسمالیة فی جوهرها عملیة تحول اقتصادی… اذ بانتفاء الابتداع یختفی عنصر أرباب الأعمال. و باختفاء دور أرباب الأعمال الفذ، تختفی الأرباح الرأسمالیة من الوجود، و یزول معها الدافع الرأسمالی. ان المناخ الذی تنمو فیه الثورات الصناعیة – أو «التقدم» بمعنی آخر – هو وحده المناخ الذی تستطیع الرأسمالیة العیش فیه… ان
الرأسمالیة المستقرة شیء یتناقض مع طبیعتها«.
»و قد بدا کما لو أن ظاهرة التنظیم الدقیق التی تفرضها التکنولوجیة الصناعیة أحری بأن تسلب الحیویة من روح الاستثمار الخاص الموروث من عهد ما قبل الثورة الصناعیة.» و قد أثار هذا الاحتمال سؤالا آخر:
»هل یستطیع النظام التکنولوجی القائم علی الصناعة الآلیة أن یظل حیا بعد انهیار النظام الاجتماعی القائم علی النشاط الخاص؟«
»و ان لم تکتب له الحیاة، فهل تستطیع الحضارة الغربیة نفسها أن تظل فی الوجود، بعد انقراض الصناعة الآلیة التی قدمت لها تلک الحضارة رهائنها، و ذلک حین سمحت لسکانها بالتکثر – ابان عصر الآلة – الی مدی أبعد مما یستطیع احتماله أی اقتصاد لا یقوم علی الصناعة؟»
»لا مشاحة فی أن النظام الصناعی لا یستطیع أن یحیی و یعمل، الا حیثما یتوافر رصید من «الطاقة الابداعیة الذاتیة» یدفعه الی العمل. و لقد تمثلت هذه الطاقة الدافعة – حتی الیوم – فی الطبقة المتوسطة.»
»و هکذا یبدو أن السؤال النهائی هو؛ هل ثمة مصدر آخر للطاقة الذاتیة یتأتی استخدامه لتحقیق نفس الغایات الاقتصادیة، و یستطیع العالم الآخذ بأسباب الحضارة الغربیة الاغتراف منه، اذا لم یکن ثمة مناص من استقطاب طاقة الطبقة المتوسطة أو تحویل اتجاهها؟
»فاذا کان ثمة بدیل عملی یمکن التوصل الیه، ففی وسع العالم أن یتطلع – و هو رابط الجأش – الی نهایة النظام الرأسمالی. أما اذا لم یتوافر هذا البدیل، فان المستقبل ملیء باحتمالات القلق و الاضطراب.«
»و بالأحری اذ کانت «مکنکة» الصناعة قد تطلبت فرض التنظیم الدقیق، و اذا کان هذا التنظیم الدقیق قد استلب الروح من الطبقة العالیة فی الصناعة و من الطبقة الوسطی بعدها، فهل فی وسع أی ید بشریة – أیا ما تکون – أن تعالج الآلة الجبارة، دون أن تحیق بها المکاره؟ (1).
1) »مختصر دراسة للتاریخ«، جزء 4، ص 207.