اوقات الفراغ

یدعو أرنولد توینبی، ضمن مخططه لانشاء الحکومة العالمیة، الی زیادة أوقات الفراغ، و هو یتوقع أن تستخدم الغالبیة العظمی من الناس هذه الأوقات فی ممارسة المساخر، التی یتوقع منها أن تؤدی الی تداعی الحیاة الروحیة عند جانب کبیر من أهل الطبقة الوسطی. فهو یقول:

»لو تصورنا مجتمعا دولیا تخلص فیه البشر، قبل کل شی‏ء، من الحرب و من صراع الطبقات، ثم مضی یحل مشکلة السکان، عندئذ نستطیع أن نستنتج أن

المشکلة التالیة للبشر تتبلور فی الدور الذی یؤدیه الفراغ فی حیاة مجتمع قائم عی التنظیم الآلی.»

»و الواقع قام الفراغ بالفعل، بدور فی التاریخ ذی أهمیة جوهریة.»

»فاذا کانت الحاجة أم الحضارة، فالفراغ مرضعها. و ان من المظاهر الممیزة للحضارة، الشوط الذی قطعه هذا الأسلوب الجدید للحیاة فی تحقیق امکانیاته. لکن لم تکن تستمتع بالفراغ سوی قلة نابهة من بین طبقة متمیزة بنعمة الفراغ، و الیها یعزی فضل تلقیح الحضارات بهذه الظاهرة. و ان جمیع الانجازات العظیمة التی حققتها البشریة فی الفنون و العلوم، کانت ثمرة لهذه الفراغ الذی تمتعت به تلک الأقلیة المبدعة، و أحسنت استخدامه فیما ینفع الناس.«

»لکن الثورة الصناعیة قد قلبت – رأسا علی عقب – العلاقة القائمة بین الحیاة و الفراغ. هذا الموقف الجدید للعامل ازاء العمل، أدی الی موقف جدید له، ازاء الفراغ. لأنه اذا کان العمل – بطبیعته – شرا، فلابد أن یکون للفراغ فی ذاته قیمة مطلقة…«

»و کان من المیسور – فی ظل تلک الظروف – التنبؤ باستعادة نوع من الفردوس علی الأرض تسوده «العمالة الکاملة«، و یوزع فیه علی کل فرد – و بکل حرص – قدر معین من العمل لا یشغل من وقت العامل سوی قسط ضئیل من یومه. و هنا یتهیأ له قدر من الفراغ یکاد یعادل ما کانت تتمتع به الطبقة الممتازة – طبقة الأغنیاء المتعطلین – التی انتهی أمرها منذ زمن، و التی تعلم أجداد هذا العامل استهجان أفعالها. و فی مثل هذه الظروف، تتضح – بلا ریب – أهمیة الاستفادة من وقت الفراغ، بأکثر مما کانت علیه من قبل.»

ثم یستشهد أرنولد توینبی ببعض أقوال فرنسیس باکون، التی وردت فی کتابه «تقدم المعرفة«، المنشور عام 1605 م، حیث یقول:

»ذلک لأنه، لوحظ حقا أن الفنون التی تزدهر فی الأوقات التی تترعرع فیها الفضیلة هی فنون الحرب. أما فنون المعرفة فتزدهر وقتها تتوقف الفضیلة عن النمو. و تروج فنون المتعة حین تتداعی قواعد الفضیلة. و من ثم أشک فی أن یکون هذا العصر

مشرفا علی دورة الهبوط. و الی فنون المتع، أضیف اقبال الناس علی المساخر ذلک لأن خداع الحواس هو احدی الحواس«.

و یعقب أرنولد توینبی علی ذلک بقوله:

»ان ممارسة المساخر تستغرق قدرا کبیرا من استخدام وقت الفراغ فی عصر اللاسلکی و التلفزیون. و واضح أن الارتفاع بالطبقة العاملة الی المستوی المادی للطبقة الوسطی قد صاحبه تدنی الحیاة الروحیة عند جانب کبیر من أهل الطبقة الوسطی…» (1).

1) »مختصر دراسة للتاریخ«، جزء 4، ص 227 – 223.