و أما الفکرة الرابعة التی جعلتها البهائیة دلیلا علی ألوهیة حسین علی و نبوة عباس آفندی و علی نبوغهما و عبقریتهما هی فکرة السلام العالمی أو ترک الحروب، و لقد ذکرنا فی أول الباب أن حسین علی قال: «قد نیهناکما عن النزاع و الجدال نهیا عظیما فی الکتاب، هذا أمر الله فی هذا الظهور الأعظم» (1).
و قال: «لان تقتلوا خیر من أن تقتلوا» (2).
و «لا یجوز رفع السلاح و لو للدفاع عن النفس» (2).
و یقول أسملنت داعیة البهائیة: «ان البهائیین ترکوا بالکلیة استعمال الأسلحة الناریة لمصلحتهم حتی فی أمور الدفاع المحضة و ذلک بناء علی أمر صریح من بهاءالله» (3).
و نضیف الی ذلک قولا آخر للمازندرانی و هو یقول: «ینبغی لوزراء بیت العدل أن یتخذوا الصلح الأکبر حتی یخلص العالم من المصاریف الکبیرة الباهظة للحروب، و هذا واجب لأن المحاربة و المجادلة أساس المصائب و المشتقات» (4).
فهذه هی الفکرة الرابعة الدعائیة و الغیر الفطریة معا، التی تظن البهائیة أنها هی وحدها قدمتها للعالم، و هی لیست الا فکرة الذل و الخشوع و العبودیة أو خیالا محضا و حلما باطلا.
أولا: من الیوم الذی وجد فیه العالم و وجد فیه البشر خلقت فیه قوتان، قوة الخیر و قوة الشر، فقوی الخیر کانت غالبة أو مغلوبة مقهورة، فان کانت غالبة غلبت علی الشر بالدلیل و البرهان تارة و بالقوة تارة أخری، و ان کانت مغلوبة مقهورة فما نجت من اعتساف الشر و الظلم الا بالجهاد الفکری حینا و بالغزو العسکری مرة أخری،
فهذه هی الطریقتان الرائجتان الماشیتان فی الدنیا منذ وجودها و لم یکن الاعتماد علی واحدة فی زمن من الأزمان و لا یکون فی الحاضر و الاستقبال، و لابد من اثنتین اما هذا و اما ذاک و الیه أشار الله عزوجل فی کلامه المنزل علی آخر الأنبیاء و خاتم الرسل:
(و جادلهم بالتی هی أحسن) (5).
و (ادفع بالتی هی أحسن) (6).
و ان لا یحصل نتیجة من هذا.
(فان قاتلوکم فاقتلوهم کذلک جزاء الکافرین – فان انتهوا فان الله غفور رحیم – و قاتلوهم حتی لا تکون فتنة و یکون الدین لله فان انتهوا فلا عدوان الا علی الظالمین) (7).
و (قاتلوا فی سبیل الله الذین یقاتلونکم و لا تعتدوا ان الله لا یحب المعتدین) (8).
ثم و ان لم یمتنع القوی الشریرة مع ذلک و امتدت فی غلوائها و شیطنتها (و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم کل مرصد) (9).
و ان امتنعت و صلحت:
(فان تابوا و أقاموا الصلوة و ءاتوا الزکوة فخلوا سبیلهم ان الله غفور رحیم) (10).
(و ان جنحوا للسلم فاجنح لها و توکل علی الله) (11).
و کان الشاعر البدوی الجاهلی أفطن و أذکی و أفهم للطبائع البشریة من البهائیة حیث قال:
و بعض الحلم عند الجعل للذلة اذعان
و فی الشر نجاة حین لا ینجیک احسان
فیجب علی قوی الخیر أحیانا أن یطرقوا الشر قبل أن یرفع رأسه بالمطارق الحدیدیة و أن یشهروا السیف علی الظالم و المعتدی قبل أن یقدم، و یفرض فرض العین أن یدافع عن الأعراض قبل أن تنتهک و عن الحرمات قبل أن تسلب و عن المقدسات قبل أن تدنس، و الذی لا یفعل هذا و لا یعمل به هو الندل الحقیر الجبان السافل المنحط المجرم عند الله و عند الناس، و لا یکون الدین دینا الذی لا ینشیء و یربی الغیرة الصحیحة و الأنفة المستقیمة، لأنها هی التی تمیز الانسان من الحیوان الفاقد الغیرة، فالانسان کلما تزداد فیه هذه الفضیلة یزداد شرفه و مرتبته، و ینقص شأنه و یقل مهما تنقص هذا المزیة، و لذلک قال أفضل البشر و سید ولد آدم صلی الله علیه و سلم: «أنا أغیر الناس و الله أغیر منی» (12).
و حینما هجم الشر و الکفر علی الخیر و الایمان کان فی مقدمة المقاتلین المجاهدین شاهرا سیفه رافعا رمحه قائلا: أنا النبی لا کذب، أنا ابن عبد المطلب:
لا مثل هذا الغادر بأمته و الخائن الماکر هاربا مدبرا قائلا: «لأن تقتلوا خیر من أن تقتلوا«.
ثم و من یخبر هذا العمیل الروسی و الانجلیزی و الصهیونی أن الحرب عبادة حینما یکون القصد منها «لتکون کلمة الله هی العلیا» و احقاق الحق و ازهاق الباطل و اخماد الفتنه، و الحرب شرف و فضیلة حینما تکون للدفاع عن النفوس الضعیفة، و الحرب مفخرة للقضاء علی الظلم و العدوان و المعتدین، و قلع الشر و قمع الفساد، و الحرب شرف لصیانة الأعراض و حفاظة الوطن و وقایة المال و الأهل، و من یخبره أن السلام لا یتأتی أحیانا و لا یحصل الا بالحرب.
أم لهم أعین یبصرون بها و أذن یسمعون بها و قلوب یفقهون بها؟
ثانیا: هل تحققت هذه الفکرة بعد ما مضی علیها أکثر من تسعین سنة مع ادعاء نبی
البهائیة عباس آفندی:
»سوف تتبدل الانسانیة فی هذا الدور الجدید، و تلبس خلع الجمال و السلام، و تزول المنازعات و المخاصمات و یتبدل القتل و القتال بالوئام و السلام و الصداقة و الاتحاد و تظهر بین الملل و الأقوام و البلدان روح المحبة و الصداقة و یتأسس التعاون و الاتحاد و تزول فی النهایة الحروب و ترتفع خیمة السلام العامة بین الملل فی قطب الامکان و تمتد شجرة الحیاة الی درجة یستظل فی ظلها الشرق و الغرب و تتأسس المحبة العامة بین الملل المتعادیة و الأقوام المتضادة» (13).
فماذا رأی العالم فی هذا «الدور المجید«؟ حربین عالمیتین کبیرتین دمرتا نصف العالم و أکلتا من البشر ما لم تأکله فی قرون، نعم و فی قرون و حتی القرون المظلمة، و حروبا کثیرة أخری فی آسیا و أفریقیا و أوربا، و فی الشرق الأوسط التی لوثها شیطان البهایئة حسین علی و طاغوتهم عباس آفندی، و لازالت تلک الحروب مخیمة فی أرضها مظلة فی سمائها، و هناک حروب تری و دمار ینتظر فی الفضاء منطویة علی الصواریخ الذریة و شاملة علی القنابل الهیدروجینیة و بلا سبب یوجبها و بلا علة تفرضها.
فهل أنتجت فکرته و أثمرت أم أعقمت و توخمت؟
ألیس منکم رجل رشید؟
ثالثا: قد ذکرنا فی مبحث «وحدة الأوطان» أن حسین علی البهاء لم یدعو المسلمین الی مثل تلک الأفکار الا لهدف خبیث ألا و هو خدمة الاستعمار الغاشم بأن یبقی المسلمون مکتوفی الأیدی أمام الأعداء و لا یدافعون عن ایمانهم و أوطانهم و حرماتهم کی یعمل فیهم الأعداء ما یشاءون و یسیرونهم حسب ما یریدون و الا ما معنی کلامه «و لا یجوز رفع السلام و لو للدفاع عن النفس«.
و «لان تقتلوا خیر من أن تقتلوا» هل المقصود منه غیر ارضاء المسلمین علی العبودیة و التذلل أمام الصلیبیین الروس و الانجلیز؟ فهذا ما یریده أعداء أمة الرسول الباسل القائد المقدام علیهالسلام، و ما الله بغافل عما یعملون.
رابعا: المرزه حسین علی لم یعمل بهذه أیضا حسب عادته المعهودة بأنه یأمر الآخرین بشیء یکون أفاعیله مناقضة به ففی أول هذا المبحث فصلنا القول فی أن هذا الخائن کان فی دوامة الجدال و القتال مع الایرانیین أولا، و مع البابیین زملائه ثانیا، و مع الأزلیین أتباع أخیه ثالثا، و مع المسلمین خاصة و کل من لا یؤمن بخرافاته عامة و أخیرا.
و لیت شعری کیف یأمر بترک الحروب و یدعو الی السلام العام الشخص الذی قضی حیاته کلها فی المجادلات و المنازعات و قتل الأبریاء و فتک المعصومین، و قد شهد علیه بهذا أحبائه و معاصروه مثل البروفسور براؤن و غیره، و تجنبا عن التکرار نترک اعادته و نحیل القاریء الی أول هذا الباب.
فالحاصل أن حسین علی لم یعمل بتعلیمه نفسه، التعلیم الذی یعده مفخرة هذا الظهور کذلک لم یعمل ابنه عباس المجادل و المقاتل مع أخوته الحقیقیین الذین عبر عنهم حسین علی ب «الأغصان» و أخبر أن أمر البهائیة یرجع الیهم بعد العباس، و البهائیة بدورها لم تعمل به أیضا حیث استمروا حسب معتقداتهم الأصلیة الخفیة دابرین داسین کائدین للمسلمین و لکن من لم یعتنق بهذه الاضحوکة الروسیة، و الربیبة الانجلیزیة الیهودیة.
خامسا: لو سلم أن حسین علی کان مخلصا فی تقدیم هذه الفکرة الی العالم و لو لم یعمل بها نفسه لم یکن هذا دلیلا علی ألوهیته و ربوبیته لأنه من المعروف أن هذه الفکرة کانت موجودة قبل ولادة حسین علی و قبل وجوده فی العالم و کان کثیر من الناس قد دعوا الی هذه الفکرة، و أشهر هؤلاء البوذا فی الهند، و کنفیوشش فی الصین، و المسیح فی القدس، و قد نسب الیه أنه قال علیهالسلام:
من ضرب علی خد أحد فلیقدم المضروب الیه خده الثانی.
و الاختراع و الابداع لیس بحاصل لحسین علی أیضا فعلی أی شیء تضرب هذه الطبول؟
(یخادعون الله و الذین ءامنوا و ما یخدعون الا أنفسهم و ما یشعرون(.
سادسا: و هل السلام أو ترک الحروب هو کل شیء فهناک قبائح و جرائم أکبر من قباحة الحرب لم یتکلم بصددها حسین علی و أتباعه مطلقا بل هم الذین أنشئوا تلک
الجرائم و دعوا الناس الی ارتکابها، فلا یوجد شیء أقبح من أن یدعو انسان عاجز الناس أمثاله الی تألیهه و عبادته و الی الوثنیة السافلة الرذیلة، فکیف یستساغ لشخص أن یجعل بنی آدم عبیدا له بعد ما ولدتهم أمهاتهم أحرارا فهل هناک جریمة أکبر من هذه الجریمة، و هل هناک شیء أشنع من أن یخضع الناس أمام القبور و الرمائم، و یطوفون حول بیوت الخائنین بقومهم علی حساب الاستعمار، و مدافن القتلة و السراق و الدابرین لنسخ الشریعة السماویة الخالدة؟
و هل هناک کبیرة أکبر من أن یعلم الناس النفاق و الکذب و الخداع «یمکن لک أن تکون بهائیا یهودیا و بهائیا مجوسیا و بهائیا مسلما» (14).
و دعوة الناس الی الصلح الأکبر کیف یمکن أن یحصل، هل یمکن الصلح بین الذین یعبدون الله وحده و یجتنبون عن المعاصی و المآثم و الکبائر و النفاق و الخداع و المکر، و بین من یجعل هذه الرذائل من الایمان و من المعتقدات الأساسیة (قل هل یستوی الذین یعلمون و الذین لا یعلمون) (15).
فالسلام لا یدعوا الیه الا الاسلام الذی یأمر الناس بالعدل و حتی بالأعداء و یمنعهم عن الظلم و العدوان و حتی علی الکفار، و ینهاهم عن استعباد الناس و السیطرة علیهم و یأمرهم بعبادة الله وحده و التذلل أمامه و الاستعانة به و التوکل علیه و عدم المخالفة الا منه، و الذی یأمر معتنقیه بافشاء السلام فیمن عرف و من لم یعرف، و یجعل تحیتهم سلاما و عدم التعرض لمن قال سلاما و أراد السلام، فالحمد لله الذی أرسل رسوله بالهدی و دین الحق الی الناس کافة (یتلوا علیهم ءایاته و یزکیهم و یعلمهم الکتاب و الحکمة و ان کانوا من قبل لفی ضلال مبین) (16).
سابعا: و أخیرا ان حسین علی لم یبین کیف ترتفع الحروب و یحل السلام و ما هو السبیل الی ذلک.
کیف الوصول الی سعاد و دونها
قلل الجبال و دونهن حتوف
فالفکرة لا تکون فکرة الا بعد تبیین الحقائق و تثبیت الوقائع و اقامة الدلائل و البراهین علی منافعها لمن یعمل بها، و المضار و المفاسد ان أهملت و أغفل عنها و کیفیة الوصول الیها و الحصول علیها، و الا یمکن لکل خیالی رومانسی أن یسبح فی التخیلات و الأحلام ثم یقدمها الی الناس قائلا بأنی أنا موجدها و مبتکرها، سواء کانت ممکنة الوقوع و الحصول أم ممتنعة؟ و سواء کانت عملیة أو غیر عملیة؟
ثم و کیف یتوقع المازندرانی «الاسم الأعظم و مالک الأمم و سلطان القدم الذی به أشرقت الأرض و السماء و لاح العرش و الثری و أضاء ملکوت الأسماء و أنار الأفق الأعلی» (17).
کیف یتوقع المدعی مثل هذا، أن یعمل وزراء بیت العدل ما لم یعمل به نفسه؟!
ثم و بیت العدل لم یتکون الا بعد مضی ثلثی القرن علی هلاکه و ها قد مضی علی تکوینه أکثر من خمسة عشر عاما فماذا عملوا للصلح الأکبر؟ و صدق الله مولانا العظیم (ضعف الطالب و المطلوب) (18).
1) »بهاءالله و العصر الجدید«، ص 123.
2) أیضا، ص 169.
3) أیضا، ص 168.
4) »لوح العالم» للمازندرانی، ص 222 من مجموعة الألواح.
5) سورة النحل، الآیة 125.
6) سورة المؤمنون، الآیة 96.
7) سورة البقرة، الآیة 191 و 192 و 193.
8) أیضا الآیة 190.
9) سورة التوبة الآیة 5.
10) أیضا.
11) سورة الأنفال، الآیة 61.
12) رواه البخاری و مسلم بالفاظ مختلفة فی حضر المعنی.
13) »مفاوضات عبد البهاء» ص 73.
14) و قد مر ذکره.
15) سورة الزمر – الآیة 9.
16) سورة آل عمران، الآیة 164.
17) »لوح علی» للمازندرانی ص 13.
18) سورة الحج الآیة 73.